مقدمة
كُتبت هذه المقالة ضمن مشروع “المناظرات المكتوبة” التي تقيمها “مؤسسة بيسمنت الثقافية”، والذي تشرفت أن تم قبولي طلبي بالمشاركة فيه، وتعمدت أن أنهج منهجاً عقلانياً هادئاً خالياً من التجريح، هدفه الوصول إلى نتيجة مُرضية.
تعريف النسوية
لمصطلح النسوية كثيرٌ من الاستخدامات المختلفة، وفي كثير من الأحيان تكون معانيه محلاً للنزاع. فمثلا يستخدم بعض الكُتَّاب مصطلح “النسوية” للإشارة إلى حركة سياسية محددة تاريخيًّا في الولايات المتحدة وأوروبا؛ فيما يستخدمه كُتَّابٌ آخرون للإشارة إلى اعتقاد وجود ظلم ضد المرأة، رغم أنه لا يوجد إجماع على بيان محدد لهذا الظلم. ورغم أن مصطلح النسوية له تاريخ في اللغة الإنجليزية يرتبط بنشاط المرأة من أواخر القرن التاسع عشر إلى الوقت الحاضر، إلا أنه من المفيد أن نميِّز بين الأفكار أو المعتقدات النسوية وبين الحركات السياسية النسوية، فحتى في الفترات التي لم يكن فيها نشاط سياسي معتبَر حول تبعية النساء، كان الأفراد يهتمون بالعدالة للنساء وينظِّرون لها. لذلك مثلا من المنطقي أن نتساءل عما إذا كان أفلاطون نسويًّا؛ نظرًا لوجهة نظره بأنه ينبغي تدريب النساء على الحكم (الجمهورية، الكتاب الرابع)، رغم أنه كان استثناءً في سياقه التاريخي )التفسيرات النسوية لإفلاطون – نانسي توانا).[1]
وأما قاموس وبستر فيعرفها بأنها “النظرية المنادية بالمساواة بين الأجناس اجتماعياً، واقتصادياً، وسياسياً”.
تاريخ النسوية[2]
بداية الحركة النسوية ترجع إلى عصر التنوير في القرن الثامن عشر، حينما دافع العديد من فلاسفة عصر التنوير عن حقوق المرأة، وبدأ الجدل حول طبيعة المرأة والفروقات بين الجنسين والذي سمي أيضًا بالجدل النسوي لاستخدام مصطلحات مختلفة عن العصور السابقة.
يقسّم الباحثون في الشأن النسوي تاريخ الحركة النسوية إلى “موجات”؛ بدأت في القرن التاسع عشر، وتطوّرت عبر قرابة قرنين من الزمن خلال أربع مراحل صنفت تبعاً للهدف الذي تبنّته.
في الواقع؛ الحركات النسوية بدأت قبل ذلك بقرون، لكنها كانت محدودة النطاق والأثر، تقتصر على النخب من كتاب وفلاسفة، لم تحقق انتشاراً أو امتداداً زمنياً لذا سميت “ما قبل النسوية”.
ـ الموجة الأولى:
بدأت في أربعينات القرن التاسع عشر في الولايات المتحدة الأميركية وإنكلترا، امتدت حتى القرن العشرين ونادت بحق المرأة في الاقتراع.
ـ الموجة الثانية:
يرجع تاريخها إلى ستينات القرن العشرين وسبعيناته، نادت بالمساواة بين الجنسين في الحقوق السياسية وعلى نطاق الأسرة والعمل، تميزت بالمطالبة بتحرير الجسد، وحق الإجهاض، وحرية الجنس. ترافقت هذه الموجة بمرحلة المد اليساري، وحركات التحرر العالمية، ومناهضة الإمبريالية؛ كانت الأحزاب الاشتراكية داعمة للحركات النسوية، فكانت مطالب الموجة نسوية وتحررية.
ـ الموجة الثالثة:
بدأت في تسعينات القرن العشرين، وقامت على انتقاد الموجة الأولى والثانية باعتبارهما ذكوريتي التوجه، فأقصى مطالبها كان مساواة النساء بالرجال، وهذا اعتراف بتفوق الرجال والسعي للتشبه بهم من خلال قيام النساء بأعمال الرجال، الأمر الذي شكّل أعباء إضافية كبيرة على المرأة.
الموجة الثالثة بخلاف سابقتيها لم تركز بشكل كبير على موضوع الجنس، متخذةً منحىً آخر للنضال النسوي من خلال تسويق صورة المرأة الواثقة، والاهتمام بتجارب النساء كما يعشنها فعلاً، احترام جنسانيتهن ومشاعرهن وخبراتهن كنساء، دون رفض الذكور أو اعتبارهم طرفاً خصماً، وإنما سعت الموجة إلى ضم الجميع من نساء ورجال من مختلف الألوان، تميزت أيضاً الموجة الثالثة باستخدام وسائل الإعلام بشكل كبير.
الموجة الرابعة:
بدأت حديثاً مع استخدام هاشتاغ “Me Too” دخلت مرحلة العالمية، واستخدام الإنترنت ووسائل التواصل فخرجت من إطار المؤتمرات السنوية وتحوّلت إلى تواصل إلكتروني عالمي ويومي.
المرأة بين الدين والفلسفة
أجمعت الديانات السماوية الثلاثة على أن المرأة خُلِقَت من الرجل، وإن حاول المفسرون أن يجتهدوا وأن يبرروا ذلك بتفسيرات مختلفة، إلا أنَّ (النسوية) اتخذت بسبب ذلك موقفاً من الدين تراوح بين التبرير والعداء الواضح. ويرجع ذلك إلى تذرع بعض المناهضين للنسوية، على النصوص الدينية التي لا يستطيع المجتمع إلا أن يرضخ لها لمهاجمة الناشطات النسويات، وقد كتب بنسون وستانجروم في هذا الموضوع كتاباً يفند مقولة أن المرأة أدنى من الرجل في الأديان المختلفة، ومن ضمن ما قاله الكاتب والكاتبة في هذا الشأن: “بعد أن ثبت أن كل الحجج الخاصة بإخضاع المرأة هي أكاذيب تخدم مصالح مروجيها الذاتية، ما الذي تبقى لكارهي النساء؟ لديهم حجة واحدة ضعيفة فقط لا يزال يتم تأجيلها وإظهار الاحترام لها في جميع أنحاء العالم: (أخبرني الله بذلك. يجب أن أعامل النساء على أنهن كائنات أقل ، لأنه مدرج في كتابي المقدس)“.[3]
أما الفلاسفة فإن كثيراً منهم أظهروا ميسوجينية أو عداءً للمرأة من قبل الميلاد حتى بعد بدء ظهور النسوية، فابتداء بسقراط الذي أظهر عداءً واضحاً للمرأة، وكان يعتبرها مجرد وعاء يحمل الأطفال، وقد قال: “النساء يولّدن الأجساد، أما الفلاسفة فيولّدون الأرواح“، وقال أيضاً أن “المرأة مثل الشجرة المسمومة التي يكون ظاهرها جميلا لكن الطيور تموت عندما تأكل منها“، ويعزو البعض عدائية سقراط للمرأة إلى تعامل زوجته السيء معه، ولذلك قال في ما قاله: “تزوّج يا بني، فإما أن تعيش سعيداً، أو تصبح فيلسوفاً“.
أما أفلاطون فكان له رأي أكثر وضوحاً حين قال: “هؤلاء الذين يعيشون حياتهم باستقامة يعودون في الحياة المقبلة كنجوم، أما الذين يعيشون بغير استقامة سيرجعون إلى الحياة كنساء“، ويعتبر البعض نظرة أفلاطون قد تغيرت في جمهوريته تجاه المرأة إلا أنها في النهاية رؤية خيالية لمجتمع خيالي.
أما أرسطو فقد قال في كتاب “السياسة” بشكلٍ واضح: “إن طبيعة العلاقة بين الذكر والأنثى، هي أن الذكر متفوق والمرأة متدنية، ما يجعل من الذكر قائداً، فيما تكون الأنثى تابعة“.
وفي حين رأى جون جاك روسو أن “المرأة كائن طويل الشعر، قصير التفكير“، فقد كان كانظ أكثر تهذيباً ورأى “أن للمرأة عقلاً جميلاً يختلف عن عقل الرجل العميق“.
أما الفيلسوف الذي يكره النساء أرتور شوبنهاور، فقد اعتبرَ المرأة منبع الشرور، ومثالاً لجنون الشهوة، وتجسيداً للخيانة والغدر والحقد. وحصرَ المرأة في زاوية الجسد، ولم يرها إلا من خلال بؤرة الجنس.
أما داروين فقد حاول الإثبات علمياً أنَّ “المرأة أدنى في المرتبة من الرجل وسلالتها تأتي في درجة أدنى بكثير من الرجل“، بل تعمد داروين إهانة المرأة معتبراً أنها “أفضل من الكلب“.
وقد نحا كوستاف لوبون منحى داروين في الحديث عن دونية المرأة بشكل علمي، فقال: “في أكثر العرقيات الذكية -كما في الباريسيين- هناك عدد كبير من النساء اللواتي حجم أدمغتهن أقرب إلى الغوريلات من الرجال الأكثر تطورا، وهذه دونية واضحة جدا، كل علماء النفس الذين درسوا ذكاء النساء يدركون اليوم أنهن يمثلن الاشكال الأكثر تدنيا من تطور الانسان وأنهن أقرب للأطفال والسذج منهن للرجال البالغين المتحضرين، لا شك هناك نساء متميزات أرقى بكثير من الرجل المتوسط، لكنهن استثناء، كولادة أي مخلوق مشوه على سبيل المثال : غوريلا برأسين وبالتالي فيمكننا أن نهمل وجود هؤلاء النساء تماما“.
أما نيتشة فقد كان له رأي مثير للجدل، حين قال: “عندما يكون للمرأة ميلٌ إلى العلم، فغالبًا ما يكون ذلك علامة على اختلال جنسها“، وألَّب عليه جمهور النساء أكثر حينما قال: “لم تبلغ المرأةُ بعد ما يؤهلها للوفاء كصديقة، فما هي إلا هِرّة، وقد تكون عصفورًا. وإذا هي ارتقت أصبحت بقرة“، وقال أيضاً: “هل أنت ذاهبٌ إلى النساء؟ حسناً، لا تنسَ السوط“.
أما سيغموند فرويد فقد هاجم كتاب “استعباد النساء” للمفكر البريطاني، جون ستيوارت مِل، والذي دعا فيه في وقت مبكر، عام 1869، لتحرير المرأة ومساواتها بالرجل، ودخولها لسوق العمل، وكان له العديد من الآراء التي تستنقص من دور المرأة.
وعلى غير ما هو متوقع فقد كان لابن رشد الفيلسوف العربي رؤية أكثر تقديراً للمرأة من الفلاسفة الغربيين، فقد قال في كتاب “جوامع سياسة أفلاطون”، بما معناه: “تختلف النساء عن الرجال في الدرجة، لا في الطبع. وهنَّ أهلٌ لفعل جميع ما يفعل الرجال من حرب وفلسفة ونحوهما، ولكن على درجة دون درجتهم، ويفقنهم في بعض الأحيان، كما في الموسيقى، وذلك مع أن كمال هذه الصناعة هو التلحين من رجل والغناء من امرأة. ويدل مثال بعض أمصار إفريقية على استعدادهن الشديد للحرب؛ وليس من الممتنع وصولُهن إلى الحكم في الجمهورية. أوَلا يُرى أن إناث الكلاب تحرس القطيع كما تحرسه الذكور؟“[4]
وعلى الرغم من أن النظرة المتقدمة والأكثر رقياً من ابن رشد للمرأة، إلا أننا يجب أن لا ننسى أنَّ (المنصور الموحدي) أمر بنفي ابن رشد وتلامذته، وحرق كتبه، ومنع قراءة كتبه، وما زال حتى يومنا هذا كثير ممكن يكفرون ابن رشد، أو يعتبرونه زنديقاً.
النسوية والمساواة
إن الاتفاق على تعريف النسوية ومعرفة تاريخها مهمٌّ في بداية هذا المقال حتى نستطيع الحكم على نجاح (النسوية) في تحقيق أهدافها، ولتكتمل الصورة يجب أن ندرك أنَّ النسوية على الرغم من الصورة السائدة لدى أغلب الناس من أنها منتج “مستورد” من الفكر الغربي إلا أن الفلاسفة العرب كان لهم نظرة أكثر انفتاحاً لقضايا المرأة، وأعلى مستوى من الفلاسفة الغربيين، وأقرب واقعيةً مما تطالب به النسويات في يومنا هذا كما ذكرنا سابقاً عند الحديث عن ابن رشد.
ويجب التأكيد هنا، قبل الخوض في التفاصيل أن حقوق المرأة لا خلاف عليها من حيث المبدأ، وإنما الخلاف في بعض الأفكار المغلوطة، وآليات المطالبة بهذه الحقوق، وآليات تنفيذها، حيث يعترض الكثيرون مثلاً على فكرة “الكوتا” التي تعتمد أحياناً في “حجز” نصيب للنساء سواء في المناصب السياسية، أو الأنشطة المجتمعية، وهذا في حد ذاته أكبر مكرِّس لعدم المساواة، وفي الوقت نفسه يرى البعض الآخر أن هذه “الكوتا” ضرورية لإتاحة الفرصة للنساء أن يصلن إلى هذه المناصب التي لم يكنّ ليصلن إليهن دون “الكوتا”، وفي هذا للأسف استهانة بقدرة المرأة.
نأتي إلى المصطلح الذي يثير حفيظتي بشكل شخصي، وما زال الجدل في أوساط النسويات أنفسهن دائراً حول جعله أساس أهداف النسوية، والحديث هنا عن مصطلح (المساواة)، الذي حوَّل قضية حقوق المرأة التي لا يختلف عليها عاقلان موضوعيّان، إلى قضيِّةٍ أقرب إلى استحالة التحقيق.
الرجل والمرأة مختلفان، ولا أدري سبب تحسُّسِ النساء من هذه الحقيقة، فالاختلاف هنا غير قابل للمناقشة، ولو لم يكن موجوداً لكان من الصعب تمييز الرجل من المرأة، لكن وما دام التمييز شكلاً حقيقة واقعة فالاختلاف حقيقة واقعةٌ بدوره.
إلا أن الاختلاف هنا ليس بالضرورة في صالح الرجل، فالاختلاف جعل لكل جنسٍ سلبياته وإيجابياته، وفي الحقيقة أن هذا الاختلاف في حدِّ ذاته هو نقطة إيجابية جداً، إذا استطعنا أن نوظِّفَ هذا الاختلاف لنحقق التكامل الذي لا يمكن أن يكون بين شيئين متشابهين، فالعلاقة بين الرجل والمرأة، أو الذكر والأنثى يجب أن تكون تكاملية –لا تنافسية ولا عدائية- لتحقق الأفضل لهما، وهذا ما وصل إليه (إليكسس كاريل) -الحاصل على جائزة نوبل- في كتابه (الإنسان ذلك المجهول) الذي يقول في أحد أجزائه: “إنَّ الاختلافات الموجودة بين الرجل والمرأة لا تَأتي من الشَّكل الخاصِّ بالأعضاء التناسليَّة، ومن وجود الرَّحِم والحمل، أو من طريقة التعلِيم؛ إذ إنَّها ذات طبِيعة أكثر أهمِّية من ذلك، إنَّها تَنشأ من تَكوين الأنسِجة ذاتها، ومِن تلقيح الجِسم كلِّه بمواد كيميائيَّة محدَّدة يفرزها المبيض، ولقد أدَّى الجهلُ بهذه الحقائق الجوهريَّة بالمدافِعين عن الأُنوثة إلى الاعتقاد بأنَّه يجب أن يتلقَّى الجنسان تعليمًا واحدًا، وأن يُمنحا قوًى واحِدة ومسؤوليات متشابِهة، والحقيقة أنَّ المرأة تختلف اختلافًا كبيرًا عن الرَّجل“، ولم يقل ما قاله انتقاصاً من المرأة، ولكنه تكلَّم كلاماً علمياً لا مجال فيه لأن نحبَّه أو نكرهه، بل أن نقبله أو نعارضه بحجة علمية تصححه، ومما يدلُّ على عدم انتقاصه من المرأة هو قوله في نفس الكتاب: “فعلى النِّساء أن ينمّين أهليَّتهنَّ تبعًا لطبيعتهنَّ، دون أن يحاولنَ تقليدَ الذُّكور؛ فإنَّ دورهنَّ في تقدُّم الحضارة أسمى من دور الرجال، فيجب عليهنَّ ألاَّ يتخلَّين عن وظائفهنَّ المحدَّدة“.
نعود إلى مفهوم المساواة، فإذا كانت المساواة هو أن تحصل المرأة على “كل” حقوق الرجل، فإن من الطبيعي والحال كذلك أن يحصل الرجل على “كل” حقوق المرأة ليتساوى معها، وهذا ما لا يمكن تحقيقه، ولا بدّ من الوصول إلى الصيغة المثلى للتوفيق بين فكرتي “المساواة” و”العدالة”، فإذا كان لا يمكن سلوك طريق المساواة، فإن طريق العدل لا يمكن إغلاقه.
حقوق المرأة حول العالم
في دراسة أعدها البنك الدولي حول حقوق المرأة بعنوان (المرأة وأنشطة الأعمال والقانون 2020) حصلت 8 دول (معظمها أوروبية) على 100 نقطة وهي (بلجيكا، كندا، الدانمارك، فرنسا، آيسلندا، لاتفيا، لوكسمبورغ، السويد)، بينما جاءت الولايات المتحدة الأمريكية في المركز 38 بعدد نقاط بلغ 91.3، بينما جاءت اليمن في المركز 189 (قبل الأخير) بـ26.9 نقطة.
النسوية في اليمن
كان ما مضى كلاماً عامَّاً عن النسوية ومفهوم المساواة، وسأتناول في القادم بشيء من التخصيص، مفهوم (النسوية) في اليمن، ولماذا يعتبر ضررها أكثر من نفعها في المجتمع اليمني.
ولتكن البداية، في توضيح الفوارق التي يمكن أن نلاحظها بين النسوية في العالم، والنسوية في اليمن، والتي فرضتها عوامل عدة مجتمعية، ودينية، وثقافية، وجعلت تأثيرها في المجتمع سلبياً إلى درجة كبيرة، وتتلخص الفوارق في أن النسوية في اليمن:
- أكثر اصطداماً مع الدين ومواجهةً لحُماته: فالنسوية والدين في العالم كله ليسا على وفاق بكلِّ تأكيد، واعذروني إذا أكثرت من استخدام مصطلحات الحروب في مقالي هذا بعد ست سنوات من الحرب، فأنا لا أجد نصيحة للنسويات في مواجهتهنّ للمتدينين إلا ما يقال في الحرب: “لا تقاتل حيث تُقتل”، فاليمنيون أكثر التزاماً من الناحية الدينية مقارنة بالدول العربية والإسلامية الأخرى، وأكثر بكثير من بقية دول العالم، ويزداد في اليمن عددُ من يعتبرون أنفسهم “حماةً للدين” -بعضهم عن معرفة، وكثيرٌ منهم عن جهل-، لذلك كانت المواجهة بين النسويات والمتدينين في اليمن أكثر وضوحاً، وليست بالتأكيد في صالحهنّ.
- أكثر حدة: إن الدراسات المنشورة عن القضايا الخاصة بالنسوية قد تلقى ردوداً حادة، ورفضاً عنيفاً إلا أن ذلك يصعب قياسه، لكنّ التطور التقني أعطانا فرصة من خلال وسائل التواصل الاجتماعي لقياس ردود الفعل بشكل أوضح، فتلاحظ من خلال تعليقات القراء وردود الناشطات النسويات أن كلاً من الطرفين حادٌّ في ردوده ونقاشه، ويعود هذا إلى أسباب عديدة سيتم بحثها أكثر عند الحديث عن “الجمهور” الذي يتابع النشاط النسوي في اليمن.
- أكثر استفزازاً: أيضاً في الحروب يقولون “لا تفتح جبهتين في وقتٍ واحد”، إلا أن النسوياتِ مُصرَّاتٌ أن يخاطبن جمهورهنّ بمظهرٍ “استفزازي”، وهنا يجب أن نناقش الأمر بعقلانية، فعلى الرغم من اقتناعهن بأن مظهرَهنَّ ليس فيه ما يعيب، إلا أن الأهم هو إدراكهنَّ لأهمية قياس رد فعل جمهورهن على هذا المظهر لا أن يقسنَهُ على ما هنَّ مقتنعاتٌ به. وهنا لا بدَّ من وضع عدة علامات استفهام حول ناشطة نسوية تخاطب جمهورها في موضوعٍ “شائك” ومع ذلك تصر على أن تستفزَّه بمظهرها قبل أن تستفزَّه بكلامها نفسه، فيترك المعنيِّين بمناقشة حديثها مضمون كلامها لينقسموا إلى جماعة مستهجنة لمظهرها، وجماعة ترى في ذلك الاستهجان تخلفاً. وضاعت القضية الأساسية في الفرعية.
- أكثر استعجالاً: يقول المثل المصري: “أخد الحقّ صنعة”، فلا يجب الاستعجال في مناقشة الأمور التي ستواجَه بردود فعلٍ قوية، تجعل طالب الحق غير قادرٍ على مواجهة الاعتراضات المتزايدة، خاصة إذا كانت هذه المطالب ستستفزَّ حتى المعتدلين دينياً، وغير المتزمّتين، وتحضرني هنا واقعة بعينها، وهي ضرورة جعل نصيب الذكر مساوياً لنصيب الأنثى مخالفين بذلك نصَّاً قرآنياً واضحاً، في بلدٍ لا يزال الرجال فيه يحرمون الأنثى من نصيبها من الإرث حتى لا يذهب لغريب!
- أقلّ وعياً: ولا أعني هنا أبداً أنَّ النساء أقلُّ وعياً من الرجال، ولكن أن النسويات اليمنيات أقلُّ وعياً من نظيراتهنّ العربيات والأجنبيات. فنظرتهنَّ ملتفتة عن القضايا الكبيرة إلى قضايا أصغر.
-
أكثر تأثراً بالجمهور: من خلال متابعة نقاشات وسائل التواصل الاجتماعي التي يسهل –كما قلت سابقاً- قياس التفاعل وردود الأفعال، فإن الجمهور المتلقي سواء في الحديث عن قضايا نسوية أو غيرها، ينقسم يشكلٍ أساسي إلى 3 أقسام رئيسية:
- المؤيدون دائماً: أو كما يقول المثل: “معاهم معاهم، عليهم عليهم”، وهؤلاء تأثيرهم خطير من حيث إيهام المتحدثة أنها أوصلت الفكرة بأحسن ما يكون، وأن ليس بعد ما قالته كلام، وأن على الرجال أن يستحوا من أنفسهم بعد هذه البلاغة، وللأسف فإن أغراض هؤلاء المؤيدين الذين يسارعون إلى “الإعجاب المنشور” –إذا كان منشوراً في وسائل التواصل الاجتماعي- قبل حتى أن يقرأه، ليست أغراضاً شريفة، ويمكن اعتبارهم “نسونجيين” لا “نسويين”، ولا يتعلق إعجابهم بالمنشور نفسه بل يتجاوز ذلك إلى الإعجاب بناشرته.
- المهاجمون دائماً: وقسم منهم لا يتعدى غرضه غرض النوع المؤيد دائماً، إلا أنه يتخذ من الهجوم وسيلة لـ”فتح موضوع”، وقسمٌ آخر منهم يهاجم فكرة النسوية في حد ذاتها لذلك يرفض أي موضوع لناشطة نسوية حتى ولو كان مضمون الموضوع عقلانياً وهادئاً، بل إن بعضهم قد يرفض موضوعاً “يهاجم النسوية” دون أن يقرأه لمجرد أن كاتبته ناشطة نسوية.
- جمهور الوسط: وهم الشريحة الأكبر والأهم، الذين ليس لديهم موقف مسبق (مع أو ضد) أي موضوع، وهؤلاء هم الأولى على الناشطات والناشطين التوجه بحديثهم إليهم، فهم على استعدادٍ لتقبل أي فكرة إذا تم عرضها بشكلٍ منطقي، عقلاني، وليسوا “مُبرمجين” على التأييد أو الهجوم.
وللأسف فإن معظم الناشطات والناشطين النسويين ينشغلون بشكر النوع الأول، ومجادلة النوع الثاني، دون إيلاء الاهتمام للنوع الثالث الأَولى به.
- أقل قدرة على الحركة وعلى التأثير: فالعادات الاجتماعية في اليمن تفرض قيوداً على المرأة تجعل من عملها في القضايا النسوية محدوداً، ولذلك –وقد يبدو هذا مستغرباً- فإن قدرة الرجل على إنجاح هذه الأعمال أكثر من قدرة المرأة.
الآثار السلبية للنسوية على المجتمع
وهكذا نرى مما مضى أن هناك الكثير من الخلل في مفهوم (النسوية) في اليمن ناهيك عن مفهوم (النسوية) بشكل عام حول العالم، لكن إلى جانب الآثار السلبية التي تم عرضها في ما سبق، هناك آثار سلبية أكثر خطورة سأفرد لها هنا مساحة أكبر.
أولاً: تقوم الكثير من الناشطات نتيجة انعدام المسؤولية بتحريض الفتيات على التمرد، سواء التمرد على المظهر من نقابٍ أو حجابٍ أو عباءةٍ، أو التمرد على الأهل، أو أي نوع آخر من أنواع التمرد المرفوض مجتمعياً، والذي يؤدي في كثير من الحالات إلى نتائج مؤسفة بسبب ردود الفعل الشديدة من قبل المجتمع أو الأهل، وقد تنتهي في بعض الحالات بالقتل.
ثانياً: مهاجمة الدين بشكلٍ حادٍّ في بعض الأحيان، دون مراعاة حساسية هذا الأمر، مما يؤدي إلى تصدّعٍ مجتمعي، وانقسامٍ يضرُّ بتماسك المجتمع من ناحية، ويؤدي إلى تعرض الكثير من الناشطات والناشطين ومؤيديهم إلى مضايقات قد تصل إلى الاعتداء.
ثالثاً: سأحاول عرض الفكرة بأكثر الطرق دبلوماسية لأقول أنَّ الكثير من القضايا المجتمعية التي تحمل في ثناياها عوامل التأييد المجتمعي مع ضحاياها، تخسر الكثير من التعاطف، والتأييد بمجرد تبني الناشطات النسويات لهذه القضايا، فأصبح دور الناشطات النسويات سلبياً إلى حد الإضرار بالقضايا التي يتبنينها.
رابعاً: تركيز الكثير من النسويات على قضايا تعتبر في النهاية مستفزة للمجتمع، بغض النظر عن اقتناع الكثيرين وخاصة ممن يقعون في نطاق هذه القضايا من ضرورة مناقشتها، مثل قضايا المثليين والعابرين، إلا أنَّ مناقشتها تثير اللغط والانقسام داخل المجتمع، خاصة أن إثارة هذه المواضيع لا تفيد أصحاب هذه القضايا بشيء ملموس، وحتى الفائدة المرجوة من الناحية المعنوية في إظهار “التعاطف” تنهار مع كمية التعليقات السلبية إذا كان الموضوع منشوراً في وسائل التواصل الاجتماعي، مما يؤدي إلى نتيجة عكسية لصاحب أو صاحبة القضية، ولكم أن تتخيلوا كمية الشتائم التي من الممكن للمثليّ أو العابر أن يقرأها أثناء نقاش قضيته من قِبَل الناشطات والناشطين والتي تفوق بالتأكيد ما كان سيتلقاه إذا لم تناقش القضية.
خامساً: لا بدَّ لي من ذكر أثرٍ يتردد كثيراً على ألسن المعارضين للنسوية –رغم عدم اقتناعي به- وهو إشاعة الفاحشة، ونشر الانحلال، ومبعث عدم اقتناعي أن هذا الأمر ليس دقيقاً –حسب متابعتي-، وأن هذا النوع من الخطاب يصلح في القرن الماضي، في وقت لم يكن فيه الإنترنت موجود في أكفِّ أطفالنا قبل كبارنا، لكن ما ذكرته سابقاً في نقطة أن النسويات يتعمدن أن يظهرن بمظهر يراه الكثيرون مخالفاً لعاداتنا وتقاليدنا كان السبب الرئيسي في إثارة نقطة “إشاعة الفاحشة، ونشر الانحلال” وزادها تأكيداً عند العامة طرقهن مواضيع حساسة.
خاتمة
في الختام، كملخص عام لما ورد في هذا المقال، فإن للنسوية أضراراً كبيرة، أوردتها في القسم الأخير “الآثار السلبية للنسوية على المجتمع”، كما أن هناك أضراراً أخرى ناتجة عن الفوارق التي نلاحظها في “النسوية في اليمن” عن مثيلاتها في الدول الأخرى، كما تم التأكيد في هذا المقال أن “حقوق المرأة” لا خلاف عليها، لكن المختلف عليه هو مفهوم “النسوية” وبالذات تركيزها على فكرة المساواة المطلقة بدلاً عن العدالة.
[1] تعريف (النسوية) في “موسوعة ستانفورد للفلسفة” Stanford Encyclopedia of Philosophy SEP .
[2] المحامية كفاح زعتري
[3] من كتاب: هل يكره الله النساء؟ Does God Hate Women للكاتب جيرمي ستانجروم، والكاتبة أوفيليا بنسون.
[4] لم أورد النص بحرفيته لعدم توفر الكتاب لأنه من الكتب المفقودة لابن رشد لكن وجدت في الإنترنت ترجمة لنصه من كتاب “ابن رشد والرشدية” للمفكر الفرنسي إرنست رينان.