يصنّف العرف القبلي في المفاهيم البحثية الاجتماعية بأنه: مجموعة من القواعد القانونية والعادات الاجتماعية التي تمثل في مجملها ما يمكن وصفه “بعقد اجتماعي للمجتمع ذاته”. وبهذا يمكن اعتباره كنظام قانوني تشريعي ينظم حياة الأفراد والجماعات في أزمنة ومجالات معينة. لكنه في أساسه هيكل يتخطى المعيار القانوني، بل ويحمل رؤية وتمثيلًا لجماعة إنسانية كنظام داخلي.

يعتبر العرف القبلي عمودًا أساسيًا لتنظيم العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بين أفراد مجتمع معيّن، بل ويصل لتمثيل قيمه أخلاقية؛ لأنه يجسد الإرادة الجماعية في تسوية الخلافات وإنشاء القوانين والوسائل لتطبيقها على الوقائع والحوادث للحفاظ على توازن وسلم المجتمع داخلياً وخارجياً.

يشهد التاريخ للعرف القبلي بأنه ظل قائمًا على الرغم من تعاقب التيارات وتتابع الإمبراطوريات والحقبات بمختلف أحداثها؛ ليحافظ على هوية المجتمع ويمثل عجلة تدور بمحورية العرف ذاته الذي تم وضعه كمرجعية للتعايش منذ تواجد المجتمعات على الأرض وعبر السنوات والقرون وفي العديد من المجالات.

إن الحقبات التي كانت فيه الحضارات تنظم وترسم أنظمتها عبر العصور كانت القبائل تنظم نفسها وترسم نظامها وفق أعرافها وقوانينها، وقد اجتهد العقل القَبَلي في ابتكارها وتكييفها بوسائل وأنظمة مثلت شكل القاعدة القانونية بطبيعتها المعاصر رغم عوامل الإعاقة مثل تعدد الأديان والثقافات.

يمكن النظر للعرف القبلي كخلاصة تراكم خبرات تاريخية لوقائع وأحداث ترسبت في حياة القبيلة؛ ليحمل مفاهيمًا متطورة بشكل يتوافق مع الظروف القائمة في مختلف المجالات التي تحيط بالمجتمع، والذي ظل باستمرار مؤمنًا بقدرة أعرافه على حل أي إشكاليات تعيقه مهما بلغت صعوبتها وخطورتها، لهذا شكّل العرف في روح المجتمع القبلي مبادئًا مهمة كالتضامن، والتكاتف، والتعاون للحفاظ على التوازن في حياة هذا المجتمع ومصالح المجتمع ككل، والحفاظ على أفراده ومصالحهم في إطار المصلحة العامة وهذه المبادئ لا تظل قائمة على المجتمع القبلي فحسب، بل انتقلت إلى المجتمع المدني برمته.

وبهذا، مثّلت الأعراف أسس للمبادئ الاجتماعية التي تساعد في تشكيل ودعم صيرورة العلاقات بالنمط المثالي بين أفراد المجتمع، ليس فقط في جانبها الخاص بالبعد الاجتماعي، بل وتجاوزته لتصل لتنظيم مجالات أخرى في الاقتصاد، والسياسة، وغيرها من الأمور التي يوجدها المجتمع لنفسه عبر تطور الحياة.

كثيرة هي الصراعات التي مرت بها اليمن. وكلما وقع صراع يرافقه انهيار للدولة؛ ليلجأ العامة في أمورهم للعرف القبلي، الذي حافظ عليهم تحت وطأة الصراع، وساهم بشكل كبير في الحد من انتشار الجريمة والانتهاكات والظلم، وهذا ما لوحظ في مواقف القبيلة التي تتخاطب بمفاهيم السلام لحفظ الكرامة وصون الأعراض، رافضة للسلوكيات العنصرية التي تتناقض مع مبادئها وقيمها وهذا كما قلنا تمثل في خطابها، والذي بدوره يستنكر لكل الانتهاكات المشينة والتي لا تتوافق مع الكرامة الانسانية وتنتهك حقوق الفرد وحرياته ومصالحه.

للعرف القبلي دورًا بارزًا أمام العوامل المختلفة التي أدت لاندثار حكم القانون في المجتمع اليمني، وخصوصا مع تصاعد الحرب الدائرة في البلاد والتي خلقت مفهوم “عجز الدولة” عن أداء وظائفها وتحديدا في البعد القانوني؛ ليصبح العرف القبلي جانبَا مفضلَا لفض النزاعات في المدن والريف، والمساهم في التماسك والاستقرار المجتمعي داخله باعتماده على أعرافه كمرجعية لحل إشكالياته.

ساهم العرف القبلي في تعزيز مفاهيم السلم والتعايش ونبذ التحريض ودعاوي الاقتتال والكراهية على مستوى الدولة والمجتمع. كما ساهم في الحد من تفاقم الفوضى والدمار والاقتتال عبر قواعده ومفاهيمه التي تنص على الدفاع عن الركائز الأساسية للسلام والتعايش وتجسيد وإرساء كل ما يساهم في بناء المجتمع وتطويره. والدفاع عن الدولة باعتبارها الضامن الوحيد لاستقرار البلد وانتشار السلام كمبادئ تؤمن به القبيلة وتحملها لتساعد على حضور الدولة.

من المعروف أن الشريحة الأكثر تضررًا في الصراعات هي شريحة الأطفال والنساء. والذي تم تضمينهما في أعراف القبيلة بالحرب؛ حيث لا يسمح لأي مسلح أن يفتش أو يعتقل أو يهين أو يمس أو يقترب باللفظ  والأذى المادي من الأطفال والنساء، حتى ولو كانوا قد ارتكبوا أخطاءً بحق أحد، وهذه قيم وأعراف قلما نجدها في مجتمع آخر بأوقات الاستقرار، فما بالكم في أوقات الصراع؟ ولهذا شكّلت هذهِ القيم والأعراف ملاذًا لحماية المرأة والطفل.

في وقتنا هذا، وخصوصا ما تمر به اليمن من ظروف خلال السنوات الأخيرة من صراعات، وجدنا بأن العرف القبلي كان جدارًا عازلًا للمجتمع عن هذه الصراعا، وكان العرف حاضرًا بدور إيجابي داخل هذه الصراعات والمتمثلة بالجهود القبلية في عملية السلام وفض النزاع، وعلى سبيل المثال ملف الأسرى الذي عجزت وسائل التنظيم الدولي عن حلها بسبب تقيدها بمصالح الدول التي تديرها. بينما أدت التدخلات القبلية القائمة على العرف للإفراج المتبادل عن مئات الأسرى وأيضًا حافظ العرف القبلي على الاستقرار ‏الأمني في مجتمعات كثيرة في الشمال بالرغم من حدة الصراع الذي غيّب الدولة والسلطات القانونية بشكل كبير.

وعليه، يعدّ العرف القبلي أحد أهم الركائز الأساسية في مجتمعنا اليمني في الحفاظ إلى حد ما على الكرامة، والحقوق، وحياة الأفراد والمجتمع، من أي انتهاكات أو أخطار محدقة قد يتسبب بها أفراد أو جماعات أو ظروف سياسية – كالصراعات الاقتصادية – أو أي نوعٍ من أنواع التعطيل الذي، يهدد بدورهِ استقرار وطننا الحبيب.