The Body of Nature and Spirit of Art – Riad Al-Hammadi

هناك من يقلل من قيمة الفنون ويعتبرها ترفاً أو تسلية يمكن الاستغناء عنها, دون أن تتأثر حياة الإنسان سلباً. وقد يستشهدون بحياة الإنسان الأول الذي عاش حياته دون حاجة إلى الفنون!
أعداء الفن, أعداء الحياة
واجه الفن عداءً من قبل رجال الدين والمصلحين الثوريين والمفكرين. وغياب تلك الأصوات عن عالم الفكر والمسيحية اليوم شاهد على انتصار الفن والزمن. ويأتي العداء للفن باتهامه بالهروب لبناء عالم بديل. والحقيقة أن الفنان يرى العالم ناقصاً, ودوره كفنان أن يكمله. الفن هروبٌ لا تخلٍ, وهنا يتجلى المعنى الأصيل للتمرد. يقول نيتشه: “ما من فنان يتحمل الواقع”. ولكي يكون الواقع محتملاً على الفنان أن يُغيّره بفنه
ويقول كامو: “الفنان يعيد صياغة العالم… الفن, على الأقل, يعلمنا أن الإنسان لا يتلخص في التاريخ فقط, بل يجد علة وجود في نظام الطبيعة”. والذين يرفضون الفن ينكرون أن يكون له معنى, لكن, كما كتب كامو: “لا وجود لفن اللامعنى”. حتى “فكرة اللامعنى, هي ذات معنى”. والإنسان الذي يريد إصلاح الواقع يبدأ برفض أوجهه السلبية, وهكذا هو الفن “يُنكر الواقع, لكنه لا يتهرب منه“.
الفن لا يقف ضد تطرف العقل والدين فقط, بل ويُوفِّق, دونما جهد ظاهري, “بين الجزئي والكلي الذي كان يحلم به هيغل”. الجمال لا يصنع الثورات, بحسب كامو “ولكن ثمة يوم تحتاج فيه الثورات إلى الجمال”. وقد أتى ذلك اليوم, فحين ساد الجمال والفن في أوروبا ساد الاستقرار والسلام وتحول جهد الثورات السياسية إلى مجال آخر فني وديمقراطي.
الفن والوجود
الذين يقللون من قيمة الفنون يخلطون بين قدرة الإنسان على البقاء حياً بغذاء الجسد: الماء والطعام, وبين شكل الحياة بدون غذاء الروح: الفنون والجمال. غياب الورود والحدائق من مدن هؤلاء هو احتجاج على الطبيعة يقول: نستطيع العيش بدون ورود! لكن الطبيعة بورودها إلى جانب الأشجار المثمرة تدرك قيمة الفن والجمال أكثر من هؤلاء. فلئن كان غياب الفن لا يؤدي إلى الموت, فذلك لأن الفن غذاء لا يخاطب المعدة, وإنما الروح, والإنسان بلا روح لا يساوي شيئاً.
القائلون بإمكانية الاستغناء عن الفنون كأنهم يطلبون إجراء العمليات دون تخدير؛ باعتبار أن الإنسان استطاع تحمُّل آلام العمليات قبل اكتشاف التخدير. نعم, يمكن للفنون أن تكون مخدراً للشعوب كما يمكنها أن تحررهم من كثير من الأوهام, لكن لا يمكن بأي حال الاستغناء عنها؛ فهي مكوِّن رئيسي في حياة الإنسان, مثلما لا يمكن للطبيب والمريض الاستغناء عن المخدر اليوم.
هذا على افتراض غياب الفنون عن حياة الإنسان الأول بشكل مطلق, وهذا ما لا يمكن الجزم فيه, لكننا نستطيع القول بوجود أشكال من وسائل التسلية التي كانت تقوم مقام الفنون. برسومه للحيوانات والأشكال التجريدية على جدران الكهوف, واتخاذه الزينة والمجوهرات والأصباغ, فقد دشّن الإنسان الفنون منذ 30 ألف سنة تقريباً. وتختلف رقصات الشعوب, لكن لا يوجد شعب لا يمارس الرقص. وهذا شاهد على أن الحياة (ضحك ولعب وجد وحب وفنون). 
لا يمكن إطلاق صفة حضارة على أمة بدون فنون. واكتشاف الفنون وتطورها, متأخراً في حياة الإنسان, شاهد على انتقال من البداوة إلى الحضارة والتمدن, وغيابها يدل على العكس. فمن الممكن تقييم تقدُّم الأمم أو تخلفها عبر فنونها؛ فتقدم الفنون أو تأخرها ينعكس إيجاباً أو سلباً على تقدم الدول والعكس. والمتأمل لحال الموسيقى في اليمن خلال ثلاثة عقود سيرى مدى التدهور الذي وصلت إليه. ففي مرحلة سابقة بلغت الموسيقى اليمنية ذروتها, فكان لدينا شعراء ومطربين بالعشرات. ومنذ التسعينيات تقريباً توقف الانتاج الموسيقي, إلا من مقلدين يقتاتون على عهد الموسيقى الذهبي, ويشوهونه في الوقت نفسه.
الفنون تهذب النفس وتسمو بالمشاعر والعاطفة وتجعلنا نتمسك بالحياة, وهي من هذا الباب تبني ولا تهدم. للألوان قدرة شفائية يستعملها الطب النفسي اليوم. حتى الطعام أصبح يُقدم بأشكال فنية. وإذا كان “الله جميل يحب الجمال”, فكيف للحياة أن تقوم بدون سماوات الفن: (نحت وعمارة, ورسم وزخرفة, وموسيقى, ورقص, وشعر وأدب, ومسرح, وسينما)!
للفن قيمة تعادل الكون نجدها في مقولة نيتشه: “الموسيقى ألغت احتمال أن يكون الكون غلطة”. والكون في نظر فيثاغورس أساسه الموسيقى والرياضيات. ويقول آينشتاين: “لو لمْ أكن فيزيائياً، مِن المُحتَمَل أن أصبِحَ مُوسيقيّاً، غالباً ما أفكّر بالمُوسيقى، أحلامُ اليَقَظةِ لَدِي مُوسيقى, وأنظرُ إلى حَياتي بدلالَةِ المُوسيقى، وأجمَلُ أوقاتي هِيَ تلكَ التي أقضيها بالعزفِ على الكَمَان“.
بالفن يتعرف الإنسان ويتميز عن بقية الكائنات, لا بالعقل واللغة. استجابة النبات للموسيقى, كما تثبت التجارب العلمية, لا يشبه انفعال الإنسان بها, لكنه دليل على ما للموسيقى من تأثير, فكيف بمن له روح! كما أن أطباء النفس يستعملون السينما والألوان كعلاج في أوروبا.
الفن والسياسة
للفن لغة غير مباشرة, قادرة على التأثير أكثر من اللغة الخطابية التي تُميِّز السياسة وغيرها من العلوم. وللفن أثر سياسي, من هنا قيل ذات يوم أن أمريكا تحكم العالم بالدولار ووزارة الدفاع ومادونا, في دلالة على توظيف الفن في السياسة. لكن على السياسة أن تكون تابعة للفن لا العكس. وهكذا تستعمل أمريكا الفن, بشكل محدود, وتأتي استفادتها الكبرى منه بطرق غير مباشرة, حيث تكتسب أمريكا قيمتها وقوتها من حرية الفن وازدهاره في مناخ حر. الدولة التي استطاعت أن توظف الفن لصالح قضاياها, دون أن تضر بالفن, هي إسرائيل. وأكثر قضية تُوظف فيها الفن هي المحرقة أو الهولوكوست.
السينما لا تغير الواقع بتصويره فقط, ولكن بأشكال فنية مختلفة. وذلك غير ممكن دون مشروع سياسي, هدفه التغيير الإيجابي. ويمكن مقارنة حال السينما في عهد جمال عبدالناصر والسادات, لنعرف إلى أي مدى يسهم المشروع السياسي في تقدم السينما, وتسهم السينما في تقدم المجتمع. كان التوجيه المعنوي والمراكز الثقافية العربية والعالمية السبعينيات والثمانينيات في اليمن يقومون بهذا الدور, ونتيجة لتناقُص عدد القاعات والأنشطة السينمائية, منذ ذلك الوقت, تصاعد الإرهاب والتطرف.
الفن والدين
الفن لا يتناغم مع الوجود ويعبر عنه فحسب, بل ويوجه الأنظار للاهتمام به. وبهذا يقف مقابلاً لكل أشكال العدميات, وعلى رأسها العدمية الدينية, التي تهمل ما هو موجود وتهتم بما وراءه.
الذين يُحرِّمون الفنون عموماً والموسيقى خاصة لأسباب دينية, في الوقت الذي يعتقدون بتأثير القرآن على من لا يفهمون لغته, لا يُدركون أن هذا التأثير ناتج عن الموسيقى الناتجة عن تنغيم أو ترتيل القرآن. هم لا ينكرون أن للروح غذاء, لكنهم يعتقدون أن الدين والقرآن هما غذاءه الوحيد. والاعتقاد أن الطعام والشراب والجنس هو الغذاء الوحيد جعل الجنة تخلو من الفنون! ومن المفارقات أن يكون “المصور” أحد أسماء الله الحسنى في مجتمعات فقهية تحرم التصوير
صرنا نعرف اليوم أن تراجع الشعر العربي في مرحلة صدر الإسلام سببه الرقابة الدينية على الشعراء الذين “يتبعهم الغاوون… إلا الذين آمنوا”. والهدف جعْل الشعر والفن تابعين للدين. مثلما جعلهما أفلاطون تابعين للفلسفة, وجعلتهما الماركسية تابعين للأيديولوجيا. وقبول المسيحية لفنون الرسم والنحت والموسيقى أسهم في فك الارتباط بين سلطة الدين وسلطة الدولة. وتطبيع العلاقة بين الإسلام والموسيقى, والفنون على نحو عام, ستكون خطوة أولى في الطريق إلى العلمانية, في السياق العربي الإسلامي.
الفن والعلم
كثيراً ما يُعرَّف الفن بمقابلته بالعلم. بوصف الفن: “معرفة خالصة ومستقلة عن سائر التطبيقات العلمية”. والفن عموماً: “عملية إبداعية تـنْحو نحو غايات جمالية (استيطيقية)، في حين يستند العلم إلى غائية منطقية”. ربما يكون هذا التمييز, بين مفهوم الفن ومفهوم العلم, هو ما يدفع البعض لأن يُعطي العلم حقه من التقدير ويضع الفن في مرتبة ثانوية. مثلما فعلت البرناسية التي رأت أن الإنسان “حقق سعادته عن طريق الفن لا عن طريق العلم”. على الرغم من أن العلم اليوم مصدر سعادة أيضاً, ولا يخلو من الفن, بعد أن تداخلا.
هذا الفهم الثنائي, أو المثالي, هو الذي جعل أفلاطون يضع الفن في أسفل مراتب الانتاج الفكري, باعتبار الفن “مظهراً لمظهر”, أي أنه لا يعبر عن حقيقة و “لا ينتج حياة, بل يعيد انتاج أحد مظاهر الحياة“.
المقابلة بين العلم والفن وبين الحقيقة والمظهر, لا تعني التعارض القطعي بقدر ما تشير إلى اختلاف في طبيعة كل من المجالين. الفيزياء الحديثة على سبيل المثال تنحو منحىً فلسفياً وفنياً. نجد هذا الأثر الفني في نظريات مثل توازي الأكوان ونظرية الوتر, التي تُشَبِّه حركة الكون باهتزاز الوتر. ونجده في مقولة لـ (هايزنبرج): “عندما يتعلق الأمر بالذرات فإن اللغة تستعمل فقط كما في الشعر, فالشاعر أيضاً لا يهتم بوصف الحقائق قدر اهتمامه بخلق الصور“.
الحواس منافذ الروح, والفن لا يخاطب الحواس إلا في الظاهر. وبلوغ غايته الروحية يحقق دوره في البناء المادي, بناء أشبه بدور الوقود. وإذا اعتبرنا الإنسان آلة, فإن ما يحركه ويجعل منه أو له روحاً هو الفن, لا الطعام والشراب فقط.

0 replies

Leave a Reply

Want to join the discussion?
Feel free to contribute!

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *