Between The Priorities of Life and the Luxury of Arts- Samer Al-Abssi
إن جدلية مسألة الفن من حيث التقييم والتعريف أصبحت مشكلة منذ أوائل القرن العشرين، وليس بعيدًا عن هذه الإشكالية تبرز أيضًا إشكالية أخرى تتعلق بضرورة الفن أو أولويته على قائمة الأولويات في حياة البشر.
والحقيقة أن هناك مأزقًا ما في موضوع مناظرة “الفن ترف أم أولوية”، إذ أن اعتبار الفن ليس بأولوية يختلف عن اعتباره ليس بضرورة، فالقول بأن الفن ليس بذي أهـمية إجحاف ينسف بجهل جهود البشرية في الإبداع وتكوين الذاكرة الفنية البصرية والمسموعة والحركية، وغيرهـما منذ بدء الخليقة وحتى الساعة لكن أن يكون أولوية على ما عداه هو نسف لجهود البشرية في الفكر والعلم والإصلاح التي تتقدم على الفن دونما شك، ولهذا دعونا أولاً أن نكون أكثر دقة وتحديداً، ونقتبس تمامًا مما كتبه معدو هذه المناظرة حين كتبوا:
”هل يلعب الفن دورًا رئيسيًا في تحسين المجتمع أم ينبغي غض الطرف عنه حتى يأتي دوره؟“
ولعل مما يفهم من هذا التساؤل أن الفن له دور ما في حياة البشر، لكن هل يرقى هذا الدور لأن يكون سابقًا على ما سواه أو لأن يتبوأ محل الصدارة؟
الحياة قبل الفن
بدأ الإنسان الأول حياته بتعلم النطق والكتابة والصيد قبل أن يتعلم الرقص، تعلم كيف يشعل النار، ويختبئ من المطر قبل أن يفكر في الغناء.
لقد كتب كثير من الكتاب الذين ناصروا قضايا الفن محاولين إقناع العالم بأهميته وضرورته وأولويته، وعلى الجانب الآخر وقف رجال الدين والمصلحين الثوريين والمفكرين وغيرهم أمام الفن عمومًا أو أمام بعض المبالغات في تصوير دوره في حياة الإنسانية، وبعيدًا عن هذا الجدل والاستشهادات التي لا تعدو عن كونها أراء قد لا تحتمل الصواب؛ فإننا إذا نظرنا اليوم وبحيادية مطلقة إلى أعظم انجازات البشرية وأهمها على الإطلاق فلن نجد للفن أي دور فيها. بل أن السلام والاستقرار قد سادا أوروبا مثلاً بعد عصور الظلام في القرن الوسطى، ليس يسبب أن قيم الفن والجمال هي التي سادت، أنما بسبب سود قيم العدالة والمساواة والقبول بالأخر، والاحتكام الى الديمقراطية كمنهج للحكم والسياسة، والاتجاه للبناء والتعمير والتكتل الاقتصادي لاحقًا، وليس بسبب التكتل الفني مثلاً.
يستحيل الفن ترفًا عندما نترك القضايا الأكثر إلحاحًا في حياتنا نـحن البشر وخاصة في الدول الأقل نموًا، ومنها التعليم ومكافحة البطالة والفقر وإنهاء الصراعات والحروب، ونحاول أن نقنع أنفسنا عبثًا بأولوية الفن في وقت ركن فيه الغرب إلى البحث العلمي والتكنولوجي وتحقيق الرفاه الاقتصادي وإسعاد الشعوب وهذا كله بدون الفن.
الوجود والفن
لا يخلُ الوجود من الفن، لكن القول بأن الفن هو غذاء الروح، وأن الإنسان لا يستطيع الحياة من دونه هو ضرب من المبالغة، ذلك أن الروح لا تقتات على الفن فقط؛ وإلا لكنا شهدنا أعلى نسب الانتحار في دول العالم الثالث وليس في العالم الأول وتحديدًا الولايات المتحدة والدول الأوربية، إن القيم الروحية التي يستند عليها الإنسان أكبر بكثير من أن تنحصر في الفن فقط، ناهيكم عن أن أنماط الفن الذي يقدم للإنسان المعاصر إنما هو فن استهلاكي لا يشبع القيم الروحية بقدر ما يشبع الحواس والغرائز، وبالتالي فهو لا يؤدي إلى استكانة الروح البشرية. الفنون ما هي إلا انعكاس لحضارات الشعوب وليست مسببًا لها، هذه الشعوب التي ما أن تصل إلى مستوىً عالٍ من الحضارة والرفاهية والتقدم ورغد العيش ما تلبث أن تزدهر فيها الفنون، والتي ما تفتأ بعد مرور زمن من الوقت أن تتحول ‘إلى سبب في فناء تلك الامم أو الحضارات كونها استكانت الى الترف واللهو، ولم تعد تلقي بالًا إلى اسباب تطورها بل وبقائها على قيد الحياة. فهل سمعتم أن أمة ما تقدمت أو أن حضارة ما نشأت بسبب الفنون. ولو أن العالم آينشتاين كان موسيقيًا ولم يكن فيزيائيًا، كما قالها هو ذاته يومًا، ما كان ليفيد البشرية كما افادها بنظرياته العلمية، أكثر بكثير من تلك الفائدة التي كان سيجنيها من الاستماع إلى موسيقاه.
السياسة والفن
قد يكون للفن قوة تأثير بالغة الوضوح أكثر من السياسة، لكن التوظيف السياسي للفن يفرغه من محتواه الحقيقي ويحوله إلى مجرد أداة للترويج لأفكار سياسية أو دينية او ثقافية غير عادلة، كما أن الطابع الاستهلاكي للفن الذي صار يلعب هو الأخر دورًا في جعله مجرد وسيلة لجمع الأموال من قبل الشركات العملاقة، ولعل الغرب وعى أن الألوية ليست للفن، وأن الفن يجب أن يقدم كمنتوج للبيع مثله مثل أي منتج أخر يمكن شراؤه كما ان الفن أضعف من أن يوقف بوجه الارهاب ويمنع تزايده، وليس غيابه أو ضعفه سببًا مباشرًا في تنامي ظاهرة الإرهاب، بل على العكس لربما أن الفن الهابط والفاضح قد لعب دورًا إلى جانب أسباب أخرى عديدة لا يتسع المجال لسردها في رفض هؤلاء لطريقة حياة المجتمعات التي يعيشون فيها، واتخاذهم التطرف منهجًا والإرهاب طريقة للتعبير عن مثل هذا الرفض.
الدين والفن
إن الحديث عن تحريم الفن أو بعض أشكاله عند تيارات من علماء المسلمين من المتقدمين او المحدثين، لا يجب أن يؤخذ عمومًا على أنه رأي الدين الوسيط، وهذه الخلاف لا يؤثر على مسألة أولوية الفن من عدمه، ومثلاً، إن تأثير القرآن على العجم وسواهم ليس بسبب النغم الناتج عن ترتيل الذكر الحكيم باستخدام المقامات الموسيقية، إنما هو بسبب التأثير المباشر لهذا الكتاب المنزل من السماء على حواس وأرواح سامعيه مقارنة بالموسيقى مثلاً، كما هو تأثيره المثبت علميًا على المخلوقات الأخرى في الكون، ومن ذلك تأثيره على جزيئات الماء مثلا، وهو ما استخلصه فريق بحث ياباني و النتائج التي توصل اليها يهذا الصدد منشورة على شبكة الإنترنت.
إن من الخطأ الجسيم مثلاً أن نرجع تراجع الشعر العربي في مرحلة صدر الإسلام إلى رد فعل الشعراء تجاه النص القرآني الذي يتحدث عن الشعراء في سورة تحمل نفس الاسم في مرحلة حساسة ودقيقة من عمر الإسلام، اتجه فيها العرب وهم من نزل عليهم الدين الجديد وهم لا يعرفون شيئًا سوى الشعر إلى أمة فاتحة وعاملة تضع أسس الحضارة الإسلامية. وليس لجعل الشعر والفن تابعين للدين لأن الشعر لم يكن يمثل حينها دور الريادة ولا لم يكتسب القداسة، ولأن الحضارات لا تقوم على الفنون ومنها الحضارة الإسلامية العظيمة، بل حتى أن الأندلس، وهي دولة المسلمين الرائدة في أرض اسبانيا ما زالت إلا عندما بدأ أمراء الطوائف هناك بالركون إلى حياة الدعة والرفاهية وما فيها من فنون ومعازف ورقص، وقد كانوا قبلا أهل جهاد وعلم وفكر.
العلم والفن
يتقدم العلم على الفن وهذا أمر لا ينكره من يقولون بأولوية الفن. وهذه الأسبقية تتعلق بغايات العلم فقط، لكنها تتعلق وعبر تاريخ البشرية في أن أعظم انجازاتها في بناء الحضارة كانت بالعلم فقط، من الاكتشافات التي انقذت حياة البشر إلى الاختراعات التي ساهمت في تمكينه من الحياة على ظهر البسيطة، أم الحديث عن الفن هو مصدر السعادة فهو مجاف للحقيقة، إن السعادة الحقيقة للإنسان سرها ومصدرها قيمه الروحية، وما يرتبط بها من شعائر دينية، وممارساته الإيجابية نحو الآخر في الحياة، فلا المال سر السعادة، ولا الفن ولا هي رفاهية الحياة، ويمكن الرجوع في هذا الصدد إلى الدراسات المتعلقة بالدول المتقدمة في مؤشر السعادة على مستوى العالم، ومنها الدول الإسكندنافية، ولا شك أن الذي جعل أفلاطون مثلاً يصنف الفن في أسفل مراتب الانتاج الفكري، هو وعي الإغريق العميق بأولوية العلم تحديدًا على الفن، وإلا ما كانوا تركوا للإنسانية ذلك الكم الضخم من المعارف التي نهل منها العالم بما فيهم العرب، وأعادوا انتاجها بصيغ مختلفة أكثر حداثة.
كما إن القول بأن الفن لا يخاطب الحواس إلا في الظاهر هو قول تشوبه مغالطة؛ إذ أن غالبية الفنون التي أتى بها البشر إنما تخاطب الحواس والحواس فقط، وكانت في معظمها تعبيرا عن الترف والمجد. فلن نحدثكم عن فنون الرومان وما فيها من قيم العري، وحتى في عصرنا الحالي فإن غالبية الافلام التي تنتج حول العالم، ذات طابع ترفيهي حسي بحت.
أيها السادة إن ما يحرك الإنسان ويجعل منه أو له روحًا إلى جانب الطعام والشراب إنما قيمه الروحية، إيمانه بدوره في الحياة، الدور الذي يؤديه في تعمير الأرض، وخلافة الله فيها إلى جانب قيم العطاء والبذل والخير لإسعاد من حوله، وليس في الفن فقط.
Leave a Reply
Want to join the discussion?Feel free to contribute!